الوادي..أسطورة فلاحية عنوانها التحدي وقطب زراعي بامتياز، اختار أبناؤها التسلح بالإرادة وتجاوز كل المعوقات بداية من التربة من أجل تحقيق حلم وطموح جعل منها خزّانا استراتيجيا لكل المنتوجات الموسمية والمبكّرة، فعانقت رمالها الذهبية جنانا خضراء تسرّ الرّائي قبل أن تكون المموّل الأول لولايات الشمال وأحد أهم ركائز الإنتاج الفلاحي بالجزائر، فكيف أصبحت الواد تطعم 48 ولاية؟
سعاد بوعبوش
لا يمكن الحديث عن الوادي، دون التوقف عند كرونولوجيا التحول في هذه الولاية، إذ ينطبق عليها مقولة “في المحن تولد الهمم”، و”الحاجة أمّ الاختراع”، فالإرادة والعمل جعلا منها حالة استثنائية ترجمها أبناؤها على أرض الواقع في عز الأزمتين الأمنية والاقتصادية اللتين عايشتهما الجزائر سنوات التسعينات.
أزمة.. همّة.. ونهضة زراعيّة
البداية كانت من سنوات العشرية السوداء، عندما حبست أنفاس الجزائريين وخنقت الاقتصاد الوطني، تسبّبت في انكماش الاقتصاد وغلق باب فرص العمل، وما كان على الساكن بالوادي يومها، حسب احمد علالي أستاذ مختص في الفلاحة سبيل آخر سوى التوجه نحو خدمة الأرض والانطلاق من الإمكانيات المحلية، حيث طوّر أحد أبناء الولاية مرشّا تقليديا ونجح في سنة 1995 في صناعة مرش محوري، وفي أواخر التسعينات انتشرت تقنية السقي المحوري فكان السبب الرئيسي في نهضة الوادي في زراعة البطاطا، ومهّدت هذه التقنية الطريق لبروز زراعات أخرى مع الوقت أعطت مردودا وفيرا لم يكن متوقّعا، مثل الطماطم الحقلية التي تشتهر بها بلدية المقرن ثم الخضر الأخرى كالفلفل، الثوم والبصل وغيرها.
من منتجات استهلاكية..إلى محاصيل مبكّرة
زراعة منتوج البطاطا بكثرة واستغلال الأراضي في هذا المجال أدى فيما بعد إلى طرح مشاكل أخرى، وهي تسجيل فائض في المنتوج والخوف من كساده، ناهيك عن ارتفاع نسبة الأملاح في التربة، لكن هذا لم يمنع الفلاحين من مواصلة ممارسة نشاطهم الفلاحي بل عملوا على التكيف مع الوقع المستجد، وهو ما سمح لهم بالذهاب بعيدا من خلال خوض تجارب زراعة منتوجات أخرى وبطرق أحدث تتكيف مع مناخ المنطقة.
وحسب علالي بدأ التنويع في الزراعات الاستهلاكية بكميات صغيرة من الفول السوداني، كما تم التوجه نحو الزراعات في البيوت البلاستيكية والتي بدأت منتصف الألفينات بداية من 2005 حيث ظهرت زراعة البطيخ الأخضر والطماطم ومع كل تكيف مع التربة يتغير المنتوج.
كل هذا كان اجتهاد خاص من الفلاحين من أبناء المنطقة، الذين فقط يريدون مزاولة النشاط الفلاحي، رغم أن أغلبهم لا يملك بطاقة الفلاح بسبب ما وصفه الخبير الفلاحي بالعراقيل والبيروقراطية في معالجة ملفاتهم، إذ بقيت عالقة منذ 10 سنوات، ما حتّم عليهم الاستثمار على أراضي ملك للدولة بطريقة غير شرعية، وعند كشف أمرهم ينتقلون إلى منطقة أخرى.
من بين العوامل التي ساهمت في نجاح الفلاحة بالوادي، وحوّلتها إلى قطب زراعي لمختلف أنواع المزروعات بما فيها تلك المرتبطة بمنطقة الشمال وسهل متيجة، الزراعة المتعددة القبب شرع فيها يقول علالي منذ حوالي 3 سنوات، وصوبت نحو زراعة المنتجات غير الموسمية أو المبكرة، مشيرا إلى أنه كانت له تجربة صغيرة في هذا المجال وأسفرت عن نتائج جد مشجعة، كما أنها طريقة جد نافعة بداية من شهر ديسمبر كونها مضادة للجليد.
الشمندر السكري.. تجربة ناجحة تنتظر التّصنيع
بالنسبة لتجربة الشمندر السكري والتي بدأت في سنة 2015 تحت إشرافه شخصيا، وبعد تجارب عديدة تبين أن أحسن موسم لزرعه هو الخريف، حيث نجح في 2018 من تحقيق 1000 قنطار/هكتار وفي أرض عالية الملوحة “بالأملاح المعدنية”، وهي التجربة التي تحدّث عنها رئيس الجمهورية في أفريل الفارط، كما أن المصالح الفلاحية للولاية قامت بطلب عيّنة من الشمندر المغروس وتم عرضه.
ويشير محدثنا إلى أنّ الولاية تحصي تقريبا حوالي 60 ألف هكتار من الأراضي المهملة بسبب استفحال الأمراض وارتفاع نسبة الأملاح فيها، بالإضافة إلى احتوائها على مسالك فلاحية وكهرباء، داعيا إلى تمكين استغلالها من طرف الباحثين والتفكير في طريقة لتأهيلها للحفاظ على استدامة استغلال هذه الأراضي، وبالفعل تمّ القيام باختيار 15 موقعا تم الانتهاء من 11 موقعا، تضمّن احتكاك الفلاح مع المنتوج تحسبا لإنشاء مصنع مستقبلا.
ويؤكّد علالي أنّ زراعة الشمندر نجحت أكثر في التربة الكلسية كونها تربة حافظة للمياه مقارنة بنظيرتها الرملية وبالتالي قلة التكاليف، ولحسن الحظ المنطقة تحتوي على مساحات كثيرة منها، كما تمّ إدخال عليها دورة زراعية كزراعة الشلقم نوع من الحبوب، بعد الحصول على بذور من معهد السقي للزراعات الواسعة بواد السمار، وأعطت مردودا مضاعفا مقارنة بالشعير، وهو ذو قيمة علفية عالية ومنافسة للذرى العلفية الصفراء التي تغرس في الصيف وتحتاج إلى الكثير من المياه، في حين أن الشلقم شتوي، كما يدخل كقيمة غذائية مضافة في صناعة الخبز.
السلجم الزيتي تجربة واعدة ونتائج مشجّعة
في المقابل يبرز منتوج السلجم الزيتي كتجربة واعدة بالمنطقة، وبالفعل تم البدء في غرسه بداية من 23 أكتوبر الفارط بعد الحصول على البذور أيضا من معهد السقي للزراعات الواسعة بواد السمار، ويتوقع أ – علالي أن تكون النتائج جد مشجعة.
وبخصوص إمكانية تحول ولاية الوادي إلى قطب اقتصادي رائد في الصناعة الغذائية، يؤكّد المختص في الفلاحة أن المنطقة تتوفر على كل الإمكانيات الطبيعية التي تمكّنها من توفير المواد الأولية التي تدخل في هذا المجال، سواء تعلق الأمر بالزراعات الصناعية كعباد الشمس، الشمندر السكري والسلجم الزيتي، وكذلك الأمر بالنسبة للزراعة الغذائية كالمصبرات سيما الطماطم والبطاطا.
وحسب المتحدث إقامة مثل هذه الصناعات مرهون بعوامل أخرى، وقد تتحول إلى عوائق تحول دون تحقيق هذا الهدف إذا لم يتم مراعاتها، على غرار وجود فراغ حسابي في سعر المنتوجات الفلاحية، أي عدم معرفة سعر التكلفة أو المصاريف ما ينعكس سلبا على المستثمرين، حيث مازال الفلاح يعتمد على الطرق التقليدية للزراعة، إذ يحتسب فقط الجهد، الماء والمال، في حين يتم إهمال اليد العاملة التي تقوم بنزع المنتوج، فيجد نفسه يدفع من رأس ماله وهذا خطأ.
وحسب أ – علالي فإن هذا الأمر يستدعي ضرورة إدراج الطرق الحديثة من مكننة وتقنيات لخفض تكلفة سعر المنتوجات لتشجيع مختلف أنماط الاستثمار والصناعات الغذائية، ولم لا الذهاب إلى التصدير؟ هذا الأخير هو الآخر يتطلّب تدخل كل الشعب من تنظيف، توظيب، نقل والشحن باعتبارها حلقات التصدير، فمن غير المعقول أن يقوم الفلاح بكل هذا بل على العكس يجب تنظيم الأمر وكل متدخل يتحمل مسؤولياته، مشيرا إلى ضرورة فتح عملية الشحن لمتعاملين آخرين، إذ تعد مصاريف هذه الأخيرة من أغلى المصاريف مقارنة بدول الجوار.
105 آلاف هكتار مساحة مستغلّة
من جهته، أكّد المهندس منيب أوبيري رئيس الاتحاد الوطني للمهندسين الزراعيين، أن النهضة الفلاحية بالوادي متعلقة بعدة عوامل مرتبطة ببعضها البعض بداية بالفلاح السوفي الذي تحدى الرمال أو الغوط أو الواحة في بحثه عن الماء عن طريق الحفر لغرس النخيل من سنين مضت، ما يعكس إرادته في تحدي الطبيعة، ناهيك عن وفرة المياه الجوفية وسهولة الوصول إليها، وكذا المناخ الصالح لكل الشعب الفلاحية ومختلف المحاصيل، سيما وأن الولاية تتربع على مساحات شاسعة، متوسطة وصغيرة وقد تصل إلى 300 هكتار.
وبخصوص المساحة المستغلة حاليا بالولاية، أوضح أوبيري أنها وصلت إلى 105 آلاف هكتار تتوزّع بين الخضراوت كالبطاطا التي وصل حجم الاستغلال فيها إلى 40 ألف هكتار، الحبوب 16 ألف هكتار، الفول السوداني 4 آلاف هكتار، التمور 39 ألف ومحاصيل علفية ألف هكتار، أما الزراعات المعيشية كالطماطم في حقول مكشوفة وصلت إلى 3500 هكتار، الثوم ألفي هكتار، وبالنسبة الزراعات المحمية ألف هكتار، الذرة قاربت ألف هكتار.
التّكوين..التّدريب..الابتكار..المرافقة أهم حلقات التّطوّر
في المقابل يشير المتحدث إلى أن الفلاح السوفي معروف بالابتكار سواء في مجال الصناعات الفلاحية على غرار الرش المحوري الخاص بالسقي أو المكننة، حيث قام بإنتاج العديد من الآلات التي تدخل في قطف منتوجه من الأرض كالبطاطا والفول السوداني، آلة الزراعة الحصاد والغراسة، آلات تصفية المياه وتسيير المحطات السقي عن بعد تم ابتكارها ميدانيا، البحث والتطبيق في الميدان، بالإضافة إلى الإرادة التي يتحلى بها الفلاح فهو لا ينتظر دعم الدولة بل هو من يسعى بجهده وإمكانياته الخاصة، وحتى فتح المسالك الفلاحية، بالإضافة إلى العقلية التجارية من اجل الاستثمار والنجاح ما عزّز عنده حب التجربة والفضول ومواكبته للتطور الحاصل في المجال الزراعي.
وحسب رئيس الاتحاد الوطني للمهندسين الزراعيين، فإن الأمر ذهب إلى إعادة إحياء الأراضي الميتة من خلال استغلال بقايا الدجاج في المساحات الخالية من المواد العضوية واستعمال الدورة الزراعية، ومعرفة أسماء البذور وأنواعها بفضل الممارسة والمتابعة، كما أصبح هناك تشبع بالثقافة الفلاحية وسط فئات مجتمعية مختلفة وسطهم حتى لدى الفئات الجامعية من أطباء ومعلمين إيمانا منهم بأهمية القطاع.
ويبرز المهندس أوبيري أهمية المرافقة التقنية من إطارات ومهندسين للفلاحينو وتوفير الأدوية وكيفية التسيير الصحيح وفقا للمسار التقني لعديد الزراعات بالتوجيه والإدارة التقنية، بالإضافة إلى دعم الدولة بمختلف البرامج سيما لصغار الفلاحين سواء في المسالك الأسمدة الآبار، الكهرباء…كلها عوامل ساهمت في نهضة حقيقية.
ويؤكّد المتحدّث أنّ الاتحاد متطوّع دائما لمساعدة الفلاحين وتدريب وتكوين المهندسين لتحقيق اكتفاء ذاتي ومنتوج سليم استهلاكي صحي وآمن، ويبقى التكوين والتدريب المتواصل والمرافقة من أهم الحلقات لضمان استدامة هذه النهضة خدمة للاقتصاد الوطني وللفلاحة الجزائرية.