من يمُر بأعالي بلدية حمام ملوان بولاية البليدة، ينبهر بجمالها لما تزخر به من مقوّمات سياحية لا مثيل لها، فتلك المياه العذبة الصّافية التي تسيل عبر الوديان، والطّبيعة السّاحرة يجلبان النظر، ومن يأتي إليها سيُفكّر في العودة ثانية.
لكن الأمر يختلف بالنسبة لأبناء هذه المنطقة الذين أجبرتهم الظروف على الرحيل، فهم يدركون المقولة الشهيرة عندهم “من يتخلى عن أرضه تخلى عن عرضه”، لذا يتشبّثون كثيرا بأراضيهم التي عادوا إليها مع بداية الألفية الثالثة لممارسة الفلاحة التقليدية، ومنهم من يأمل في أن تكتمل عودته بالإقامة مجدّدا في تلك الأحواش التي ولدوا بها هم أو آباؤهم.
في جولة تفقدية قمنا بها إلى جبال حمام ملوان، انتابنا شعور غريب ممتزج بالغبطة والألم، فقد فرحنا لهؤلاء الفلاحين والمربين على نشاطهم وعملهم الدؤوب، وحزنًا على ماضيهم الأليم، فبعد إرغامهم على الرحيل بسبب الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد خلال سنوات التسعينيات، ها هم يعودون بعد تحرير أراضيهم من بقايا الإرهاب.
سألنا أحد شباب حي مقطع لزرق، الذي يبعد عن مركز بلدية حمام ملوان بخمسة كيلومترات عن دوار السباغنية، فأجاب المدعو عبد النور عزوز: “حي السباغنية يقع بعيدا ومترفعا كثيرا، وقد تكون الطريق مقطوعة بسبب تساقط الثلوج”، وبعد إصرارنا على الذهاب إلى هذا الحي رد بالقول: “انتظر سيأتي مستثمر فلاحي ويمكنك محاورته”.
مطالب ببناء أحواض السقي
بينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، قدّم المستثمر عبد الرفيق عباد الذي يعتبر أحد الفلاحين الناجحين بالمنطقة، ويشتغل بالتعاون مع إخوته، وبصدر رحب أجاب عن أسئلتنا حول الفلاحة الجبلية: “أنا مربي حيوانات وفلاح أيضا، حاليا أملك بين 20 و30 رأسا من البقر وبين 30 و40 رأسا من الماعز، وقمت أيضا بغرس ما يقارب هكتارين من الأشجار، لقد ركزت فيها على التين والزيتون وبعض أشجار البرقوق، المشماش والإجاص”.
وتابع بالقول: “مياه السقي غير متوفرة لدينا، لذا لم نوسّع نشاطنا الزراعي، وكما تعلمون في الجبال نعتمد على مياه الينابيع، ومؤخرا أصبحت ضعيفة، ولكي نُوفر المياه بشكل كاف لابد من بناء أحواض، آمل في أن تساعدنا الدولة في هذا الإطار، لأن السقي المحوري والتقطير يتطلب توفر أحواض لتخزين المياه، ولا يمكن القيام بذلك عند جلب المياه من الينابيع، وبناء أحواض سيسهل أيضا جمع المياه، فعوض أن تسقي مساحة هكتار واحد تصبح تسقي 3 أو 4 هكتارات”.
هجرة الأرض سنة 1995
استحضر عبد الرفيق الذي هو في عقده الخامس كيف أرغمته الظروف على ترك أرضه خلال سنوات التسعينيات: “لقد كنّا نقيم بمنطقة قوبع بالطريق المؤدي إلى حي السباغنية، ورحلنا إلى مقطع لزرق مع نهاية سنة 1995 بسبب الظروف الأمنية الصعبة (يقصد الإرهاب الذي أضرّ كثيرا بالمنطقة)، وفي عام 2006 بدأت أشتغل بتربية عجلين فقط ثم طورت نشاطي، علما أنّ أبقارنا تتغذّى بالرعي في الغابة، لكن هذه السنة وبسبب الجفاف قمنا بشراء العلف والتبن لها، وخسرنا سعر بقرتين لأجل توفير الأكل بسبب الجفاف للأسف، فالرعي ليس طوال السنة، بل يكون شهري الربيع والصيف، ونبدأ في توفير الأكل في أوت، ونستمر في ذلك حتى نهاية شهر مارس”.
ويُسهم هذا المستثمر في إنتاج الحليب بشكل معتبر، ففي فصل الربيع يصل معدل إنتاجه اليومي 20 لترا، وتنفذ سلعته بسرعة لجودتها، فزبائنه يأتون إليه لأخذ هذه الحصة، وبحكم التجربة يرى عبد الرفيق بأنه قد يُوظف عمالا إذا ما طور مشروعه مستقبلا، لكنه يُفضّل أن يحرص عليها شخصيا: “يتعين أن يحرص المربّي على عمله بصفة شخصية والعامل لن يفيد في هذا المجال، فقد تكلف العامل بإحضار الأكل للأبقار لكن لا تعوّل عليه كثيرا، ومن الضروري أن تحرص أنت كمربي على ماشيتك أو أبقارك”. وبالإضافة إلى تربية الحيوانات وزراعة الأشجار المثمرة، ينتج عبد الرفيق بعض المحاصيل الهامة مثل الطماطم، الباذنجان، البصل والثوم، وغالبا ما يزرعها في فصلي الربيع والصيف، وهي منتوجات طبيعية خالصة وصحية مائة بالمائة.
مستثمر نموذج يُتحذى به
بعدما أنهينا محاورة عبد الرفيق، وافق عبد النور على أن يكون دليلا لنا، وعلى متن سيارته الخاصة من نوع ” توينغو” قمنا بجولة تفقدية لمعاينة تلك المستثمرات والإصطبلات المنتشرة في أعالي الجبال، كما بدا مرافقنا سعيدا باهتمامنا بالفلاحين البسطاء وتسليط الضوء عليهم، ونقل انشغالاتهم ومشاكلهم. توقفنا بدوار “الداوبشية” التابع لمنطقة الشرفاء، لنشاهد هكتارات من الأراضي تم استصلاحها وتهيئتها من طرف المستثمر محمد ديبوش، والذي يعتبر نموذجا ناجحا يحتذى به، فهو أول فلاح بالمنطقة يُجرّب غرس أشجار الكرز، كما خصص مساحات معتبرة للكروم، ويقوم ببناء منزل تحسّبا للإقامة به، ليكون قريبا من هذه المساحات الفلاحية، ثم تنقلنا إلى إسطبله لتربية الأبقار، فاستقبلنا شقيقه ورحب بنا، وأخبرنا بأن استثمارهم تحقق بأموالهم الخاصة ولم يستفيدوا من أيّة إعانة من قبل الدولة. وليس بعيدا عن اسطبل ديبوش هناك اسطبلات هامة للمربي عبد الرفيق، وكلاها قريبة من الطريق الرابط بين مقطع لزرق وحي السباغنية.
الدّعم لتوسيع النّشاط
في طريق العودة حدّثنا عبد النور عن تجربته قبل أن يأخذنا إلى مزرعته الصغيرة المحاذية للثكنة العسكرية في حي مقطع لزرق قائلا: “النشاط الفلاحي توارثناه أبا عن جد منذ أن كنا تابعين لتابلاط (التابعة حاليا لولاية المدية)، وأنا أصولي من منطقة الشرفاء، وأجدادي رحلوا هنا إلى مقطع لزرق سنة 1956 وأقاموا في المحتشد، ثم قاموا باستصلاح الأراضي الموجودة على حافة الواد واستغلوها في الزراعة التقليدية وتربية الأبقار والماعز، لكن على العموم لن يتعدى نشاطنا الفلاحي تحقيق الاكتفاء الذاتي”. وأكمل محدثنا بالقول: “أريد تطوير نشاطي مثل بعض الزملاء هنا بالمنطقة، ولأجل ذلك يتعين عليّ الحصول على بطاقة مربي للاستفادة من كل أنواع الدعم، وآمل في أن تساعدنا الدولة في عملية استصلاح الأراضي وفي بناء اصطبلات، ونحن نتفرّغ للعمل”. وفي سؤال حول انتعاش الفلاحة الجبلية بالمنطقة، ردّ قائلا: “بعد استتباب الأمن مع بداية الألفية الثالثة، بدأنا نعود تدريجيا إلى أراضي أجدادنا، وحاليا يُقارب عدد المستثمرين الناجحين الخمسين، وفي حالة ما إذا وفرت لنا الدولة الدعم اللازم سيرتفع عددهم، وهو ما سينعكس بالإيجاب على الاقتصاد الوطني بتوفير اللحوم والحليب في السوق وكذا الخضر والفواكه”.
توفير الطّاقة وشق الطّرق..
قبل أن نُودّع مقطع لزرق، كان لنا حديث مع المستثمر محمد ديبوش، الذي برر تطور الفلاحة الجبلية في حمام ملوان بتحسن الظروف الأمنية، كما ألحّ على ضرورة توفير الكهرباء الفلاحية التي ستسهل عملية السقي، فذلك سيحفّزه وزملاؤه على توسيع نشاطهم، ويشجّع من لهم أراضي بالمنطقة على الالتحاق بهذا النشاط، على حد قوله.
ويروي محمد عن تجربته: “نحن لسنا جددا في المنطقة، بل كنّا نعيش فيها وبسبب العشرية السوداء تركناها ورحلنا نحو المدن كما حدث لكل سكان الجبال في سائر الوطن، ومع أواخر سنة 1996 رحل الجميع ممّن كانوا يسكنون بها وكأنّهم تشرّدوا وتوقّف نشاطهم بصفة نهائية، وبعد استتباب الأمن بدأت عودتهم تدريجيا بين سنتين 2005 و2009، حيث باشروا في شراء الأبقار وتهيئة الأراضي، وشيئا فشيئا وسّعوا نشاطهم وتحدّوا كل الصعاب وكل هذا بمجهوداتهم الخاصة، وكان الدعم الوحيد هو تعبيد 6 أو 7 كيلومترات من الطريق قبل خمس سنوات تقريبا، والتي سهلت تنقلنا طبعا”. وتابع بالقول: “نطالب بشق الطرقات وتوفير الطاقة لأن ذلك سيشكّل دافعا للناس للعودة لخدمة أراضيهم وحتى بناء الإصطبلات لتربية الدواجن والأبقار و…، فتوفير القاعدة سيسهل عمل الفلاحين…بدأت عملي في سنة 2009 وفي بداية الأمر كنت مربيا للأبقار فقط، ولحد الآن قمت بزرع 7 هكتارات، وكل أنواع الأشجار تنجح زراعتها باستثناء البرتقال، زرعت هكتارين من الكروم وثلاثة أخرى من البرقوق والباقي متنوع، وفي السنوات الثلاثة الأخيرة بدأت أحصد الغلة”.
يد ممدودة..
بعد العودة من حمام ملوان تنقّلنا إلى مقر الغرفة الفلاحية لولاية البليدة، وكان لنا حديث مع أمينها العام معمر عبري، الذي يقول:
“خطّطنا برنامجا لمناطق الظل، فقمنا بزيارتها سنة 2019 رفقة الرئيس والتقنيين ثم أعدنا الكرة في سنة 2020، وزرنا كل المناطق الجبلية بداية من بلدية صوحان بالجهة الشرقية إلى بلدية واد جر بالجهة الغربية مرورا بحمام ملوان والشريعة وعين الرمانة، وتوقفنا على تواجد استثمار حقيقي، وعمل كبير يقوم به الفلاحون هناك، ونحن نشجّعهم ونقف معهم. لقد طرحوا أمامنا إشكال الكهرباء وشبكة الطرقات، وقمنا بإعلام السلطات بانشغالاتهم”.
وأكّد محدّثنا دعم الوالي للفلاحة الجبلية، والذي يفسره أيضا تخصيصه لغلاف مالي يقدّر بـ 8 ملايير سنتيم لتعبيد الشطر المتبقي من الطريق نحو السباغنية، والتي تشهد احتفالا سنويا يصادف لحدث تاريخي في 22 فيفري، كما أن المسؤول الأول في الولاية قام بالتنقل إلى المكان وتبادل الحديث مع الفلاحين بالمنطقة. وبخصوص مطالب هؤلاء الفلاحين، أوضح مسؤول الغرفة الفلاحية: “هناك البعض منهم طلب بطاقة فلاح وهناك من يسوي في ملفه، وهناك من هو بحاجة إلى تكوين. برمجنا لهم يوما دراسيا حول الطاقة الشمسية التي يمكن الاعتماد عليها في حالة ما إذا تعذّر ربطهم بالكهرباء الفلاحية…”. وختم قوله: “سنقف مع هؤلاء الفلاحين لأنّهم يساهمون في تطوير الاقتصاد الوطني، فالمناطق الجبلية في وقت مضى كانت تموّن المدن بالمنتوجات الفلاحية، وأتذكّر جيدا كيف كان يأتي العاصميون إلى باب الرحبة في مدينة البليدة لشراء الخضر والفواكه، وكان هناك إنتاج متنوع ووفير وذو جودة وطبيعي”.