في الوقت الذي ألقت كورونا بظلالها على عدّة قطاعات وشلّت الحركة الاقتصادية فيها، كانت خسارة منتجي التّمور بورقلة بسبب هذه الوضعية مضاعفة.
منذ انطلاق موسم تسويق التّمور السّابق الذي تصادف وانتشار فيروس “كوفيد-19” كجائحة عالمية شلّت حركة الاقتصاد العالمي، شهدت السّوق تراجعا كبيرا مقارنة بالسّنوات السّابقة رغم تسجيل إنتاج وفير وجودة نوعية هذه السنة، حيث قدّرت الحصيلة المتوقّعة بنحو 1.7 مليون قنطار من التّمور تتوزّع على مختلف الأصناف على غرار دقلة النور، الغرس والدقلة البيضاء.
تعد التّمور من بين الشّعب الإستراتيجية التي يبقى الاهتمام بتطويرها انشغالا بارزا لدى المنتجين بولاية ورقلة، لكن الانتكاسة التي شهدها سوق التمور سنة 2020 ورغم أنّها في اتجاهها نحو الحل، إلاّ أنّها تستدعي وبإلحاح تكثيف جهود جميع الفاعلين في هذا الملف من أجل إيجاد حلول كفيلة بتجاوز الظّروف الصّعبة، وتشجيع اليد العاملة على الاستمرار في الإنتاج والتّمسّك بهذه المهنة.
ولأنّ الفلاحين اشتكوا ضعفا في تسويق هذا المنتوج الاستراتيجي بسبب تراجع أسعاره، اعتبره البعض رهيبا إلى أكثر من نصف السعر، وذكر بعضهم أنّ السبب في ذلك، يبرّره التجار الكبار بعدم بيع كل كميات التمور المنتجة خلال السنة الماضية، نظرا لغلق الأسواق بسبب جائحة كورونا، ممّا يعني أنّ السّلعة المنتجة خلال العام الماضي لم تسوق وزاد عليها إنتاج هذه السنة، الأمر الذي أدّى إلى تفوّق العرض على الطلب.
وقال محمد فارسي رئيس المجلس المهني الولائي المشترك لشعبة التمور، إنّ قطاع النّخيل كغيره من القطاعات الفلاحية يعاني العديد من المطبات والمشاكل التي يواجهها الفلاح بتعب وإرادة خاصة لم تعقه حتى كورونا، بل كان جنديا أخضر في مواجهة هذا المرض ولم يتوقف عن الإنتاج بل ضاعف الإنتاج إلى حد أنّنا اليوم أمام كساد فرضه علينا الوباء.
فحركة التجارة كما ذكر تكاد تكون مشلولة داخليا وخارجيا، وأثّر عليها هذا الوضع وأصبح الطلب على هذا المنتج محدودا جدا، سواء من حيث التصدير العادي إلى ما وراء البحر أو من ناحية المقايضة في اتجاه دول الساحل، مالي، النيجر ونيجيريا وغيرها، خاصة بالنسبة لنوعية التمور الجافة وتحديدا “الدقلة البيضاء”، التي تنتج ولا تستهلك محليا وتعد السوق الإفريقية منفذها الوحيد.
هذا الوضع انعكس سلبا على السّوق وأكثر المتضرّرين منه كحلقة أضعف من سلسلة حركة التمور من الإنتاج إلى الاستهلاك هو الفلاح الذي أصبح يعاني بشكل كبير، كما أوضح، حيث أنّ المردود الاقتصادي لا يعوّض نفقات مرحلة السقي أو مرحلة الجني أو الفرز التي يتحمّلها الفلاح في انتظار موسم الجني للتعويض، لكن مع الأسف هذه السنة جعل واقع تسويق التمور الفلاح في ورطة لولا المحبة والارتباط بالنخلة، ولم يعد بإمكانه المقاومة في ظل هذه الوضعية، فالتمر الذي كان يباع بأسعار معقولة أصبح يباع بقيمة علف المواشي، حيث وصلت “الدقلة البيضاء” لأسعار جد متدنية، مشيرا إلى أنّه لا يوجد جهاز يمكنه إحصاء الخسارة إحصاءً اقتصاديا، وإنما تقديرات الخسارة أحيانا تتجاوز 3 أرباع المنتوج، ويضطر الفلاح لبيعه بشكل علف وبثمن بخص.
تقييد المقايضة مع دول الجوار
تشهد عملية التّصدير عن طريق المقايضة مع دول أفريقيا، حسب رئيس المجلس المهني لشعبة التمور حركية بطيئة بسبب بعض القيود المفروضة، نتيجة الوضع الأمني واعتبارات لا يمكن تجاوزها، لذلك يبقى انسياب حركة التجارة عبر الحدود مرة واحدة في الشهر أو مرتين لا يكفي بالنظر للكميات الكبيرة المكدّسة من التمور، خاصة أن حركة التجارة في التصدير العادي أو بالمقايضة تبقى متنفّسا لتصريف وتسويق التمور المكدسة.
ويأمل الفلاح في أن تضمن الجزائر هامش ربح عن طريق اتفاقيات تجارية مع نيجيريا أو تنشئ قواعد اقتصادية على مستوى هذه الدول، خاصة وأن هناك منافسة اليوم من عدة دول تغزو السوق الأفريقية بتسهيلات وامتيازات وتخفيضات، ولمَ لا نسعى لاسترجاع مكانة في هذه الأسواق في إطار سياسة عامة للتعاون البيني التجاري ما بيننا ودول أفريقيا.
وبالنسبة للحلول المقترحة لتجاوز هذه الوضعية حسبما كشف المتحدث، فإنّ تنظيم ندوة وطنية حول تجارة المقايضة بمشاركة كافة المتعاملين سواء المنتجين، المجمعين، الناقلين، هيئات الرقابة، الجمارك، الولايات المعنية والوزارات المختصة ضروري في هذه المرحلة، من أجل طرح المشاكل وإيجاد حلول لها والخروج بمجموعة من التوصيات لصالح الاقتصاد الوطني قبل كل شيء، وحتى نحافظ على الفلاح ولا يمل ولا ينفر من إنتاج التمور، وذلك بتقديم تسهيلات للمتعاملين والحد من كل التعقيدات والتراخيص إلا ما تعلق بالمساس بالأمن الوطني وصحة المواطن والصحة النباتية والحيوانية التي تبقى خطوطا حمراء لا يجب تجاوزها.
ما ينتظره منتجو التمور من الدولة هو أن تهب لمساندة الفلاح لتجاوز هذه المحنة من خلال فتح المجال للتصدير العادي وعملية المقايضة بتسهيل كل الإجراءات، وبالتسريع حتى إلى إبرام اتفاقيات لمنع ازدواجية الجمركة بالنسبة لبعض الدول الأفريقية، كما ذكر فارسي أنه يمكن إذا اقتضى الأمر المساهمة كذلك في إطار التعاون البيني بين الدول الإفريقية، تسهيل تعبيد بعض الممرات التي تمر عبرها قوافل تجارة المقايضة أو إنشاء كهبة لهذه الدول في إطار التعاون الإفريقي محطات للوقود، تساعد مصدري التمور الجافة نحو دول إفريقيا في إطار المقايضة،كما يستفيد المصدر بامتيازات عديدة في الاتجاه الآخر، خاصة في مجال النقل الذي يعرف بالمسافات الطويلة ووضعية الطرقات التي تعيق حركة التجارة وتشلها أحيانا، نظرا للظروف المناخية.
هناك توجّه وإرادة صادقة لجعل من ورقلة قطبا تجاريا، صناعيا واقتصاديا، وهو ما يتوضّح من خلال تخصيص سوق وطنية للتمور بالإضافة إلى 4 أسواق جهوية معلن عنها، والتي تعد مكسبا، إذا جسد سيساهم في جعل ورقلة بحكم موقعها، وهذا ما نأمل تحقيقه لما فيه من فائدة – كما قال – في تنظيم السوق وتحديد الأسعار وإعداد خارطة لإحصاء التجار، غير أن الصناعة التحويلية لفائض التمور لمنتجات في مجال تحويل التمور تبقى إحدى الحلول، إلا أن رأس المال الاستثماري في هذا المجال بورقلة محدود الإقبال أو غير مرغوب فيه على التمويل المصرفي.
ويعوّل على الصيرفة الإسلامية لتكون مصدر تمويل للتشجيع على الاستثمار في تحويل التمور، خاصة أن ما يزيد عن 100 منتج مصدره التمر، وهو استثمار لا يتطلب عتادا تكنولوجيا ضخما في هذا المنتج، الذي يحمل الكثير من الفوائد الصحية حتى من مخلفات التمر، فمثلا نواة التمر تحوّل اليوم إلى مستحضرات تجميلية، صناعة رب التمر، معجون التمر، عسل التمر، إنتاج الحلويات وغيرها.
غياب رؤية استشرافية يرهن المستقبل
تطرح هذه الظّروف حسب نقاشات المهتمين بقطاع إنتاج التمور مستقبل شعبة زراعة النخيل، التي تعاني من مشاكل عدة مهدّدة لمسار تطورها، نظرا لعدة عوامل.
حسبما أوضحه رئيس لجنة الفلاحة والري والغابات والموارد الصيدية بالمجلس الشعبي الولائي لولاية ورقلة، حسان بوحفص، فإنه بالإضافة إلى مساعي كافة الفاعلين اليوم للبحث عن الحلول الممكنة ودراسة مشكل تسويق التمور بالولاية خلال هذا الموسم، وإجماعهم على ضرورة التماس مراجعة القرار الوزاري المشترك ليوم 02 جويلية 2020 حول تجارة المقايضة الحدودية، وإعادة مؤسسات التحويل والتخزين داخل مدونة الدعم الفلاحي، بالإضافة إلى تثمين منتجات النخلة وإعطائها القيمة المضافة من خلال إنشاء مصانع لتحويل التمور ومخلفاتها، وتكوين وسطاء في التجارة الخارجية وإعادة بعث مصانع التمور، وكذا العمل على إدخال التمور ضمن النمط المعيشي للعائلة الجزائرية.
أشار إلى أنّه نظرا للنّتائج المشجّعة لإنتاج التمور والعودة التدريجية للاهتمام بالنخلة في أوساط الشباب خلال السنوات الأخيرة، فإنّ التخوف كان من عزوف الفلاحين على مواصلة الاستثمار في هذا المجال، وصعوبة الحفاظ على الاستثمارات والأيدي العاملة المكتسبة خلال السنوات الأخيرة.
وهو نفس الانشغال الذي طرحه عضو الغرفة الفلاحية بولاية ورقلة وممثل شعبة النخيل والجمعيات الفلاحية في المجلس الولائي للجمعيات ولجان الأحياء، موسى حماني، الذي اعتبر أنّ ما يميّز الطابع الفلاحي في ولاية ورقلة هو زراعة النخيل التي تحظى فيها بأهمية خاصة، إلا أن العديد من العوامل تشكّل تهديدا لثروة النخيل على وجه الخصوص.
وأبرز ما يهدّدها بالإضافة إلى الزحف العمراني على غابات النخيل المحيطة بالنسيج العمراني لبلديات ورقلة، والحرائق المفتعلة من أجل التوسع العمراني على حساب الثروة الغابية للنخيل، نقص اليد العاملة من فئة الشباب، والتي أصبحت ترى في النخلة غير مجدية اقتصاديا، كما أن الشيء الخطير هو الأمراض التي تفتك بالنخيل، وجميعها عوامل تستدعي من الجهات المعنية أخذها بعين الاعتبار لدراسة واقع ومستقبل زراعة النخيل في المنطقة.
وأكبر تهديد لما تبقى من هذه الثروة، هو مشكل تصريف وتسويق غلة التمور، التي أثّرت كثيرا على منتجي التمور بفعل تدني أسعارها في السوق هذه السنة، والتي لم تعوّض الفلاح حتى تكاليف الإنتاج، حيث أضحت عاملا آخر مهدّدا قد يضاعف من مشكل تراجع الحماسة في زراعة النخيل، وقد يعزّز العزوف المسجل في اليد العاملة المختصة في العناية بالنخيل، وهو ما يستدعي إعداد إستراتيجية وطنية تسمح باسترجاع هذه الثروة الفلاحية، وجذب اهتمام الفلاحين لهذا النوع الهام من الإنتاج، الذي يعد طابعا خاصا تتميّز به المنطقة، وذلك عبر تطوير آفاق ثروة النخيل ومنتج التمور، الذي يشهد تراجعا واضحا في الاهتمام به بالمقارنة مع زراعات أخرى رغم أهميته المحلية باعتباره وسما للنشاط الفلاحي المحلي.
الصّناعات التّحويلية..المخرج
تحتل ولاية ورقلة المرتبة الثالثة وطنيا من حيث إنتاج التمور، وقد بلغ مجموع عدد النخيل فيها، 2 مليون و719 ألف و303 خلال موسم 2020 – 2021 بزيادة ملحوظة مقارنة بالعام الماضي، كما أن هناك توقعات بارتفاع الإنتاج ليصل إلى مليون و700 ألف قنطار خلال هذا الموسم.
وعن إشكالية التسويق في التمور، فإنّ تسجيل بعض الرّكود في حركية تسويق المنتوجات الفلاحية كما أوضح مدير المصالح الفلاحية لولاية ورقلة ساعد الهواري، يعود إلى تأثير كورونا وهو ظرف استثنائي مسّ منتجات فلاحية أخرى أيضا، إلا أن الأمور في الوقت الحالي تسير نحو التحسن والأسعار في السوق ملائمة.
أما عن المقترحات المطروحة لتجاوز هذا الوضع الذي يهدّد مستقبل هذا النوع من الزراعات، حسب الفلاحين، فقد أكّد المتحدّث أن كورونا وإن كانت عاملا أثر سلبا على التسويق في ظل هذه الظروف، إلا أنها كانت سبيلا للتفكير في إيجاد حلول والتوجه نحوها بجدية، خاصة ما تعلق بأهمية الاستثمار في الصناعة التحويلية الغذائية للتمور، مضيفا أن السوق الوطنية للتمور من شأنها كذلك المساهمة في خلق الثروة بشكل مباشر بالنسبة للفلاحين وغير مباشر بالنسبة لمختلف المتعاملين في هذا المجال.
واعتبر أنّ ما تشهده شعبة زراعة النخيل وإنتاج التمور في السنوات الأخيرة، يعد قفزة نوعية بفعل الزيادة الكبيرة والتوسع في مساحات زراعة النخيل، وما تحتاجه اليوم هو تضافر جهود الجميع من أجل الحفاظ عليها، والعمل على تطويرها من خلال التوجه بقوة نحو الاستثمار في تحويل التمور.