انتشر بولاية المسيلة نمط عمراني جديد، أثار انتباه المتابعين للشّأن المحلي، خاصة وأنّ نمط السّكن الجديد لا يعتمد على مادة الحديد بشكل كبير، ومُربح للوقت والمال.
دفعت الظّروف الإجتماعية المتردّية لمواطنين بالمسيلة، جرّاء توقّف العديد من الأنشطة، بسبب انتشار جائحة كورونا “كوفيد-19″، قابله ارتفاع كبير في أسعار مواد البناء وزيادة تكلفة اليد العاملة، وارتفاع كبير في طلبات السّكن بمختلف أصنافه، إلى العمل وفق مقولة “الحاجة أمّ الإختراع” انطلاقا من تجسيد منازل بنمط عمراني جديد، أخذ حيّزا كبيرا من يوميات المواطنين والمتابعين للشّأن المحلي.
ظهرت فكرة إنجاز منزل على شكل خيمة وبقبب بمنطقة بوسعادة لأوّل مرة من قبل المهندس المعماري ومدير مكتب “المدينة للدّراسات” ببوسعادة عبد الرزاق أمساعد سنة 2017، وحاول بكل الطّرق تجسيدها على أرض الميدان قصد تقديم المساعدة للعائلات المعوزة التي لا تستطيع بناء بيت بحجم تلك التّكاليف في ظل ارتفاع مواد البناء، وخاصة مادة الحديد التي وصل سعرها اليوم في السوق حدود 12000 دينار جزائري، وهو ما دفعه للتّفكير في إنجاز منزل بأقل تكفلة ممكنة، وأكثر صلابة وأقل وقت.
استلهام الفكرة
يروي المهندس المعماري عبد الرزاق أمساعد لمجلة “التنمية المحلية”، بداية فكرة المشروع، التي راودته لأوّل مرة في شتاء 2017 بعد زيارته الميدانية لمنطقة أولاد سليمان التّابعة إداريا لمدينة بوسعادة بمعية جمعية خيرية، حيث تمّ العثور على عجوز تقطن في العراء، وتستعمل قطعا من القماش مع عدّة أعمدة خشبية لتنام تحت ما يشبه الغطاء، ما دفعه للتّفكير في إيجاد حل من أجل إسكانها في أقرب وقت ممكن، خاصة وأنّ المنطقة معزولة، وتعتبر من مناطق الظل والظّلام، فقام رفقة الجمعية ببناء غرفة بمساحة 12،5 م² في ظرف 24 ساعة تخص عملية البناء، نجارة خشبية، تلبيس داخلي وخارجي وطلاء.
ويشير المتحدّث بخصوص الطّريقة الجديدة لبناء المنازل، إلى أنّها “عبارة عن شكل دائري في البداية ثم ننهيه بشكل قبة، وهي البداية لإنجاز مساكن بالمناطق المعزولة والمسالك الصّعبة، بعد أن يتم اختيار المستفيد الذي كان في بداية الأمر عن طريق جمعية خيرية اسمها “رانا هنا للجزائر”، وهي مختصّة في جمع التّبرّعات وتوزيعها، حيث كان لها الفضل في تحديد الحالة الأولى والثانية قصد مساعدتهما في إنجاز سكن لهما في بلدية سيدي عامر، ويتعلّق الأمر بأرملة وأبنائها يشتغلون في رعي الغنم ويسكنون في أكواخ من القصب والأغصان والبلاستيك، وفي الحالة الثانية تمّ العمل بالتصميم الجديد الذي يرتكز حسب عبد الرزاق على المرجعية الثّقافية للمجتمع البدوي، في ما يخص الخيمة أو “البيت”، وهي المرجعية التي تتكوّن من فضاءات متعدّدة الوظائف وبدون حواجز تقسمها، تجعل السّاكن في هذه الفضاءات الواسعة لا يتأقلم أبدا مع سكن حضري.
ويرى عبد الرزاق كمهندس معماري أنّه لا يمكنه أن يصمّم لمجتمع لا يعرفه، ولا يعرف تقاليده وعاداته بحكم وجوده بمقربة اجتماعية وثقافية من المجتمعات البدوية، مشيرا في كلامه إلى أنّ السّكن يجب أن يعبّر على طبيعة المجتمع وطريقة استهلاكه للفضاءات وكيفية قضاء عاداته اليومية، ولم لا التّعبير بصدق عن مجتمع كان ينتمي له مؤسّس الدّولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر الجزائري، واختراعه البارع لـ “الزمالة” العاصمة المتنقّلة التي لم يسبقه إليها أحد في تاريخ البشرية.
ويقول إنّ ما دفعه للأخذ بهذا النّمط هو إيجاد حل مناسب لهذه الفئة العريضة من المجتمع الجزائري على ضوء الإشكالية المطروحة حاليا، خاصة أنّ هناك فئة لا تستطيع الدّولة الوصول إليها، فئة معزولة جغرافيا واقتصاديا، ونعتبرها خزّانا للتّراث اللامادي لمجتمعنا، الذي يتطلّب الحماية وإيجاد علاقة بين الأسرة البدوية أو الرّيفية والمنزل الذي يستوعبها.
طبيعة النّـمط المعماري الجديد ومميّـزاته
يكون المنزل أو البيت عبارة على خيمة مبنية بمواد عصرية، بمساحة تقدّر بـ 80 م²، ويحتوي على فضاءات سميت بنفس مسمّيات فضاءات الخيمة التّقليدية، فهي تتكوّن ممّا يسمى في منطقة أولاد نايل من جهتين، جهة يمنى وأخرى يسرى تسمى “الخالفة”، ومن الجهة الخلفية “الستور”، أمّا الأمامية فتسمّى “شارب البيت”، ولها وظائف مختلفة، فالجهة اليمنى مثلا خاصة بالنّساء والأطفال، أمّا اليسرى فإنّها للأب والأبناء الذكور، ولا مجال لوجود غريب (ذكر) عن العائلة داخل الخيمة، فالضّيوف يتم استقبالهم في خيمة أخرى.
ويقول صاحب الفكرة عبد الرزاق، إنّه في هذا البيت تمّ استنتاج فضاءات “عصرية” جعلتهم يصنعون فضاء من حجرتين مفتوحتين عن فضاء مركزي كبير وحجرة واحدة لها باب مخصّصة للأبوين، مع إنجاز غرفة صغيرة خاصة بالتدفئة، يخرج منها عمود إسمنتي لتصريف الدخان، كما تمّ بذات البيت محاكاة الخيمة من ناحية النّوافذ والباب الرّئيسي وبنائه على شكل مثلث، وهو ما أذهل المشاركون في عملية البناء، الذين يكتشفون كل مرة شيئا جديدا، وهو ما جعلهم يشتغلون بكل حماس.
وما ميّز المنزل الجديد حسب عبد الرزاق أمساعد هو تكلفته البسيطة والمقدّرة بـ 50 مليون سنتيم، ومدة إنجاز تقدّر بـ 15 يوما، بمواصفات تقنية عالية وبسهولة اندماجه في البيئة، وميزة بنائه البيو مناخية bioclimatique، بالإضافة إلى أنّه مضاد للرياح العاتية (فلا تكاد تسمع صوت الرياح) بفضل شكله الكروي من كل جهة، ناهيك أنه في فصل الصيف تبقى حرارته مقبولة بفضل الشكل العام للبناية، خاصة وأن أشعة الشمس تنكسر على الأشكال المنحنية فوق القبب.
ويشير المتحدث إلى أنّ المشروع مضاد للزلازل، في ظل عدم وجود عدة عناصر للهيكل، الذي هو عبارة عن عنصر واحد، وهذا بالضبط ما يجعله مضادا للزلازل، وهي طريقة فريدة من نوعها monolithe تعطي البناء تماسكا فريدا من نوعه، مرجعا سبب عدم تقسيم المنزل من الداخل بحكم تقاليد الأسرة البدوية أو الرّيفية التي تفضّل العيش مع بعضها، دون التفريق داخل البيت الواحد، فمن عاداتها تقاسم كل شيء والعيش في كنف واسع مثل الطّبيعة التي تحيط بها، فالبدوي طبيعته عدم حبه للحواجز مثل الجدران، وعلى هذا الأساس – حسب المتحدث – تم إنشاء أقل عدد ممكن من الجدران.
ويقترح عبد الرزاق بخصوص النّمط المعماري الجديد، ضرورة العمل به في المناطق النائية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، التي تعرف ارتفاعا جنونيا في أسعار البناء، خاصة وأن التنقية الجديدة – حسبه – تتجاوب بالفعل بطريقة إيجابية خاصة في ما تعلق بالحديد الذي استعمل في المشروع أقل من 15 % من الحديد الكلي المستعمل حاليا في بناء السكن الريفي، وهو ما يعطينا فكرة واضحة لاقتصاد كبير في مادة الحديد، بالإضافة إلى ربح الوقت وانخفاض في التكلفة الإجمالية للبناء.
صعوبات كادت أن تجهض المشروع
لم يخف عبد الرزاق الصّعوبات التي كادت أن تكون حجرة عثرة أمام فريق العمل، على رأسها انعدام المسالك المؤدّية للمنطقة الريفية، والتي تسمح بالوصول إليها مشيا بالأقدام، فما بالك أن تنقل مواد بناء بشاحنات ثقيلة، وهو ما دفع الفريق مثلما قال عبد الرزاق إلى فتح مسالك ريفية للوصول لمنطقة “الحسين”، صاحب البيت التي تعتبر أرضه الوحيدة الموروثة عن آبائه وأجداده، وتمّت عملية نقل المواد بفضل تبرّع المحسنين، وعلى رأسهم أحد أبناء بوسعادة الكرام، حيث كان أوّل المساهمين في تجسيد المنزل، النّاشط الجمعوي والمقاول لخضر بن خرفية، والذي أكّد في حديثه لمجلة “التنمية المحلية”، أنّه تلقّى اتّصالا من صديقه عبد الرزاق، لبناء منزل بنمط جديد فأعجب بالفكرة وقرّر أن يترك بصمة في المشروع، من خلال المساهمة ماديا وحتى جسديا من خلال العمل كفرد من المشاركين من عمال وبنّائين، بالرغم من الصّعوبات التي واجهت الفريق.
ويقول بن خرفية إنّ ما دفع الجميع إلى العمل بكد هو شكل البناء الجديد والجميل، خاصة أنّها فكرة جديدة بالنسبة للمنطقة والمجتمع، معتبرا أنّ المشروع يحمل بذور نجاحه، خاصة أنه في الآونة الأخيرة كثر عليه الطلب من ولايات الوطن من طرف مستثمرين وخواص.
ويطالب المتحدّث بضرورة اعتماد السكن الجديد محل السكن الريفي لما يوفّره من ربح للوقت والتكلفة، واستنكر بشدّة عدم مساهمة الجماعات المحلية في المشروع، والتي كان يجب – حسبه – أن يكون لها الدور الكبير في رفع الغبن عن أبناء المنطقة، خاصة الذين يعيشون في مناطق الظل التي حظيت بدعم كبير من السّلطات العليا مؤخرا.
وفي ذات الجانب، اضطر فريق العمل بخصوص غياب قنوات الصرف الصحي، إلى وضع قنوات من البلاستيك لنقل مياه الصرف إلى غاية نقطة تجميع عبارة عن حوض مغلق (fosse perdue)، وكانت الفكرة ناجحة بشكل كبير، في حين تمّ وضع شبكة إنارة أثناء التّشييد، وستربط بعد نهاية الأشغال بلوحات للطّاقة الشّمسية، نظرا لغياب أعمدة الكهرباء التي تبعد عن المنزل بحوالي 06 كلم.
فرحة لا توصف
لم يكن بوعمار يحلم بسكن لائق في ظرف وجيز، وهو الذي انتظر سنوات من أجل تحقيق هذا المطلب، فقد ظل يعاني من تسرّب مياه الأمطار، وقد ثمّن عملية إنجاز مسكنه بالنمط العمراني الذي يعكس هوية وثقافة أهل المنطقة.
يأمل الآن في أن تلفتت السلطات المحلية إلى انشغالاته الأخرى، وتوصل بيته بالغاز الطبيعي خاصة وأنه يعتمد على قارورات غاز البوتان وأغلب الأحيان على الحطب، وكذا إيصال شبكة الكهرباء الريفية إلى منزله الذي يبعد عن المدينة بـ 06 كلم، ناهيك عن إعادة تأهيل الطريق الذي يصل إلى منزله، والذي بات لا يصلح للسير في شتى الظّروف.
واعتبر المتحدّث نوعية المنزل الذي تمّ إنجازه من قبل المتطوّعين وبهندسة معمارية جديدة باللاّئق والحضري، مؤكّدا أنّ الطّراز العمراني الذي بني به منزله يوفّر له في فصل الصيف درجة حرارة معتدلة، وأعرب عن أمله في أن يعمّم إنجازه على جميع الفئات المعوزة التي تسكن مناطق الظل.