ينصرف الجزائريون بعد الإفطار إلى المساجد لإتمام مناسك الشهر الكريم، كما ينصرف آخرون للترويح عن أنفسهم في سهرات رمضانية بين المقاهي وفضاءات المتعة والسمر و الترفيه، بينما يستأنف عمال النظافة مهامهم اليومية بجمع النفايات المنزلية ساعة بعد الإفطار إلى غاية ساعات متأخرة من فجر اليوم الموالي..
“الشعب” رافقت فرقة من عمال نظافة في عملها الليلي بمدينة معسكر، وعايشت معهم تجربة خاصة في آداء عملهم النبيل.
مهندس النظافة تسمية جديدة لدعم رجال النظافة
” مهندسي النظافة ” تسمية اطلقت قبل عامين على عمال النظافة كنوع من التشجيع والدعم المعنوي والاجتماعي لهذه الفئة، التي غالبا ما يُنظر إلى عملها النبيل بازدراء ، بل يصنفها البعض في خانة المهن “الأدنى شرفا”. لكن ما يخفى على شريحة كبيرة من المجتمع أن من بين هؤلاء العاملين في مجال النظافة أشخاص ذوي مستوى ثقافي رفيع فضلوا المهنة النبيلة على الكسب السهل وغير المشروع.
بولاية معسكر تتكفل المؤسسة العمومية لرفع وتسيير النفايات المنزلية بمهمة جمع القمامة، التي يشرف عليها 1400 عامل يغطون هذه الخدمة عبر 47 بلدية بتعداد سكاني يزيد عن المليون نسمة. و يتقاضى عمال المؤسسة المكلفين بجمع النفايات اجرا شهريا بقيمة 30 الف دينار جزائري، وهي الأجرة التي تسد رمق عيشهم وتحفظ ماء وجههم و تنسيهم شقاء العمل، رغم تزايد أعباء الحياة،
1400 أسرة تقتات من المؤسسة
يقول عامل النظافة سنوسي.س 45 سنة ، ” أقدر مهنتي لأني اكسب منها مالا حلالا ، و أتمنى ان لا يشقى ابنائي من بعدي وأراهم في مناصب تعوضني شقاء عمري ” ، وليس عامل النظافة سنوسي- وحده من يتلفظ بعبارات حكيمة، بل أغلب من سألناه عن مهنته و ظروف عمله كان جوابه حكيما و مقنعا، فيقول عبد القادر ” نحن نحب عملنا ولا نستصغر قيمته وأثره في المجتمع ، وبسبب دورنا البيئي صرنا نحظى بالاحترام و الوقار، وأظن أن المجتمع لا يمكن أن يستمر بدون عمال النظافة لحاجته إليهم كحاجته للطبيب و المعلم و غيرهم ” ،
أما “حفصي” عامل نظافة برتبة مراقب، فأوضح أن فريقه يمارس مهامه بمعنويات مرتفعة، وذلك سبب “الرضى” والقناعة التي يتمتع بها. وأشار إلى أن تسيير المؤسسة العمومية للنظافة قد تحسن كثيرا منذ سنتين، بعد ان اوشكت المؤسسة على الإفلاس و الانهيار، وواجهت مشكلات عديدة منها العجز عن تسديد أجور العمال و تأمينهم، لافتا أن السلطات العمومية فضلت خيار اصلاح تسيير المؤسسة و” نحن كعمال تمسكنا بحلولها و نجني اليوم أثر ذلك، حيث تحولت روح العمل الجماعي عامل تقدم المؤسسة و نجاحها”.
و بالرغم من المعنويات المرتفعة لعمال النظافة لمعسكر ، أثناء تأديتهم لعملهم، فهناك الكثير من المسائل التي تزعجهم وتثير استياءهم لاسيما خلال عمليات جمع القمامة ليلا .
وتنطلق خدمات عمال النظافة في حدود الساعة التاسعة ليلا، ضمن جولات “ماراطونية” تجوب شوارع المدن والاحياء لجمع القمامة المنزلية، و تستمر الى غاية الساعات الأولى للفجر، لتنطلق في اليوم الموالي جولات أخرى لفرق النظافة لاتمام المهمة الحفاظ على جمالية مدن الولاية ونظافتها.
“كفّوا عن التصرفات اللامسؤولة”
جمع القمامة ليلا، مهمة تختلف باختلاف الظروف، فهناك شوارع لا تتوفر فيها الانارة العمومية ومناطق تعج بالحيوانات الضالة والقوارض السامة، وأكياس قمامة تخفي الكثير من المخاطر..
يقول العامل محمد بوخشبة (41 سنة)، أن الزجاج والأواني المكسورة هي أكثر النفايات التي تعيق أداء عمله، زيادة على النفايات الصيدلانية مثل الإبر التي كثيرا ما تخترق قفازات عامل النظافة معرضة صحته للخطر. وأوصى أن يقدر أفراد المجتمع جهد عامل النظافة “ويكفوا عن بعض التصرفات والسلوكيات اللامسؤولة التي قد تصل إلى إصابة رب أسرة يقتات من رفع قمامة المجتمع – بمرض خطير يصعب علاجه”،
وبينما تشكل النفايات الصلبة على غرار الاتربة والزجاج جزءا من القمامة المنزلية، يقول محدثنا حفصي، أن الخبز عنصر أساسي في أكياس القمامة، مشيرا أنه لاحظ تراجعا في كميات القمامة التي ترفع وتجمع يوميا بفعل عامل الغلاء وتدني القدرة الشرائية، غير أن التخلص من الخبز بين اكوام القمامة لم يتراجع، داعيا إلى مراجعة الأفراد لأنفسهم وتدارك سلوكياتهم التي تنم عن الاسراف والتبذير،
“بقايا الخبز” تشكل جزءا كبيرا من القمامة المنزلية
وبحسرة بالغة يقول “قادة ” عامل النظافة الخمسيني: ” اطلب من الناس أن لا يرموا الخبز مع القمامة ..هناك من يأخذه لعائلته.. أنا شخصيا أتأسف لأنني أجد رغيفا كاملا من الخبز وسط القمامة ..ضعوه جانبا في الأماكن المخصصة له “.
محدثنا رب أسرة تقيم في كوخ في أحد مقابر مدينة معسكر، يقول “أنه يجد في القمامة وجبات كاملة لم تستهلك”، ليقاطعه زميله علي: ” أغلبنا يعثر على أشياء ذات قيمة في القمامة المنزلية .. منها ملابس وأحذية، قد نستعملها أو نبيعها في حال عدم حاجتنا إليها”. ويضيف ” البعض منا يجد في القمامة لقمة عيشه. كما يتصدق أصحاب محلات علينا باللحوم و الأسماك..” . هذا يعطي انطباعا أن هذه الفئة من المجتمع مازالت تحتاج إلى دعم مادي ومعنوي اعترافا وتقديرا لجهودها.
هكذا هي يوميات وليالي عمال النظافة بمعسكر، لا يجدون حرجا من الحديث عن الفقر والعوز. ويتوقون إلى مستوى معيشي واجتماعي يناسب و”الاحترام والوقار” اللذان يكنهما لهم المجتمع و السلطات، من خلال رفع اجورهم أو تمكينهم من مزايا تشجعهم على الاستمرار في عملهم النبيل بمعنويات مرتفعة، منها الاستفادة من “استثناء” في الحصول على سكن اجتماعي بغض النظر عن قيمة اجورهم، التي لا تكاد تسد حاجياتهم الأساسية.