كتمهيد ابتدائي، فإنه قبل أي مشروع لابد من تحديد مفاهيمه التي تشكل بنيته الفكرية أولا، إذ التنمية ليست مجرد إنشاء وتأسيس للمجمّعات وأشغال عمومية، بل عبارة عن مسار تطوري له غايات كبرى وأهداف جزئية، وآليات تطبيقية وخطط تنظيمية يلتزم بها المشروع في كل مراحله.
إن التخطيط الاستراتيجي يُعتبر في حد ذاته مجالا حيويا وعميق الغور يمثل الخلفية الفكرية التنظيمية التي تهندس كل تلك الغايات والأهداف والآليات والخطط وفق رؤية مستقبلية واحدة.
هنا تُطرح الإشكالية الآتية:
بأيّ شكل من الأشكال يمكن تحديد دور التخطيط الاستراتيجي في تحقيق التنمية وتجاوز تحدياتها؟
وللتطرق لمتن الموضوع من جوانب مختلفة، فيمكن فتح ثلاثة زوايا لإلقاء الضوء منها، وهي:
- زاوية التخطيط الاستراتيجي.
- زاوية الألغام الثلاث للتنمية.
- زاوية الأفق المستقبلي المنشود.
أولا: زاوية التخطيط الاستراتيجي
بصفة عامة يمكن ضبط مفهوم التخطيط الاستراتيجي بأنه: العملية التنظيرية الكبرى التي تحدّد الأهداف وتخصّص كل الموارد المادية والبشرية الممكنة، وتوزّع المهام فيما بينها لتنفيذها في مجال زمني محدد تتم أثناءه المتابعة التقييمية المستمرة لمدى فعالية التنفيذ ونجاعة الآليات للحفاظ على الاتجاه المنشود.
ويتمثل دوره هنا في التنظيم الدقيق وجعل الموارد كلها في تعبئة شاملة نحو هدف موحّد.
ولكن هذه التعبئة لا تكون ذات نتيجة إلا إذا كان الهدف واضحا لدى جميع المعنيين بالمشروع، فمثلا يستطيع مدير مشروع اقتصادي ما في مؤسسة فهم أهداف عمله وتشكيل نظرة بعيدة المدى له.
ولكن لا تستطيع المؤسسة تحقيق تلك النظرة والوصول إلى تلك الأهداف إذا كانت محصورة فقط في ذهن صاحبها، ولم يتمكّن موظفو المؤسسة وكوادرها من فهمها والشعور بها، وجعلها جزءاً من عملهم، وتحويل عملهم إلى قطعة لا تتجزأ من تلك الرؤية الإستراتيجية.
ومنه فهنا نلاحظ الدور الكبير للتعبئة في تحقيق الشحذ الروحي اللازم، والتوتر النفسي الضروري الذي يساهم في إنجاح الخطة الإستراتيجية نجاحا كاملاً.
ومن أهم أسس التخطيط الاستراتيجي التي تجعله أكثر شمولية هو الاستشراف المستقبلي، إذ لا يكفي امتلاك طموح بعيد المدى دون امتلاك نظرة استشرافية تتنبأ وفق مؤشرات عدة بما قد يحصل مستقبلا، وتعدُّ العدة له لتتعامل معه بشكل أكثر فعالية أو تتجاوزه قبل حدوثه عبر تجنب أسبابه المسبقة.
ويمكن تعريف الاستشراف بأنّه الاجتهاد الفكري الذي يحدّد صور متوقّعة عن المستقبل في مجال واحد أو عدة مجالات انطلاقا من مؤشرات من الماضي والحاضر لاتخاذ الأسباب المناسبة التي تساعد إما على تحقيق صورة متوقعة أو تفاديها.
ولهذا يغلب على الدراسات المستقبلية الطابع الرياضي الدقيق الذي يساهم في الاقتراب من الواقع الآتي المحتمل بشكل كبير ممّا يساعد على التعامل مع معطيات الحاضر وفق اسشترافات المستقبل لتسييرها بانتظام يتماشى والرؤية المستقبلية الموجودة عن المخططين الاستراتيجيين.
ومنه فإن المشاريع الاقتصادية والتنموية إذا لم تأخذ بعين الاعتبار الدراسات المستقبلية واستشرافاتها لدمجها في التخطيطات الاستراتيجية فستكون عرضة للأخطاء الآتية:
- اختلاف في الرؤى بين المنفّذين وتضارب في الصلاحيات.
- انعدام للرؤية المستقبلية الواضحة.
- فوضى في العمل وتناقص في التنسيق الجَماعي المشترك.
- ضياع زمني كبير وتجاوز آجال الإنجاز المحددة.
- الاصطدام بواقع متغير في المستقبل مما يجعل المشروع غير مواكب للعصر وإمكانياته.
- تذبذب معايير التقييم بسبب اختلاف الرؤى حول مستقبل المشروع وآفاقه.
انطلاقا من كل ذلك نستنتج بديهيا الدور المحوري للتخطيط الاستراتيجي في تحديد الأهداف وطرقها وإجراءاتها وآلياتها وتوزيع المهام والموارد والتعامل مع مختلف السيناريوهات المستقبلية.
وكذلك أهميته في رفع فعالية الأداء ودقة التنفيذ وسرعة الإنجاز، وتجميع الجهود بدل تجميدها وتخفيض المخاطرة والفوضى وضمان الترابط الزمني بين مختلف نشاطات المشاريع، وذلك باعتباره عملية علمية جادة ودقيقة.
ثانيا: زاوية الألغام الثلاث للتنمية
من أكبر التحديات التي يواجهها أي مشروع تنمية في الدولة هي ثلاثية: “الفقر، الجهل والتفرقة“. وهنا فإن المقام أضيق من التعمق في أبعاد هذه الثلاثية السوداء – التي قد تطرق إليها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي بتفصيل أكثر في رسائل النور– بحيث أن الفقر هو اللغم الأول لأي مشروع تنمية.
فكلما ارتفع الفقر في البلاد انخفض مستوى التنمية فيها، فأيُّ خطة لم تستهدف مكافحة الفقر بالدرجة الأولى لرفع مستوى القدرة الشرائية سيكون مآلها الفشل أو التناقض عاجلا أو آجلا لأنّها قد أهملت الغاية الرئيسية والهدف المسبق من التنمية ألا وهو غِنى الإنسان.
أما اللغم الثاني الذي يواجه قطار التنمية فهو انعدام كفاءة العنصر البشري علميا، وعدم فعاليته عمليا، وذلك راجع إلى الجهل وانتشار الأمية وعدم تغطية النظام التعليمي والتربوي للحاجات العقلية والنفسية للإنسان ممّا يؤدي به إلى تحويله من عنصر بنّاء إلى عنصر هدّام.
فالتنمية لا يمكنها إلا أن تتوافق مع العلم، أما الجهل فلا يمكنه أن يتوافق إلا مع التخلف، ومحاولة الجمع بين التنمية والجهل إنما هي كمحاولة غير منطقية للجمع بين النقيضين، وهذا محال.
لذلك فإن تأسيس قاعدة تكنولوجية للتعليم تجعل نظامه مواكبا للعصر وتُوصل المعلومة الموثوقة في أسرع وقت إلى كل ربوع الوطن من مؤسسات تعليمية وتكوينية إنما هي السبيل الحقيقي للتنمية المحلية وجعلها مستدامة لأنها ارتبطت بالمُواكَبَة العلمية للعصر.
أما اللغم الثالث فهو يتعلق بالتفرقة الاجتماعية الناجمة عن الصراعات الطبقية والفتن القومية والعرقية التي تضرب النسيج الاجتماعي للأمة، وهذا ما يمكن القول عنه أنه “ضرب التماسك السوسيوثقافي للدولة من أجل إضعاف قدرات دفاعها الاستراتيجي“.
إذ النتيجة المتحصل عليها في حالة تصدُّع البنية الداخلية هي انخراط مؤسسات الدولة برمتها في حالة من النزاع أو الصراع يرهن فعالية أدائها وإنتاجها، فتتخلف مستويات التنمية المحلية لأسباب اجتماعية.
ولهذا فلابد من عدم إهمال الدور الارتباطي بين التفرقة الاجتماعية والضعف المؤسساتي باعتبار أن تلك المؤسسات في حد ذاتها تستمد شرعيتها القانونية وطاقتها الحيوية من الشعب، فأيّ خلل يصيب المتغير الأخير سيصيب حتما المتغير الأول.
وعليه فكلما كان هناك تماسك للبنية الاجتماعية كان هناك ثبات لمؤسسات الدولة، وكلما كانت هناك تفرقة وتصدع كان هناك اختلال وعدم استقرار للمؤسسات..مما يؤثر بطريقة مباشرة في حُسن الأداء الوظيفي لها الذي لا تتحقق التنمية المحلية إلا بواسطته.
انطلاقا من التحديات الثلاث المذكورة آنفا والتي ترهن التنمية، يمكن ملاحظة أنها كلها تتأسس على العنصر البشري، فالفقر والجهل والتفرقة ليست إلا أمراضا تحطم هذا العنصر الذي يُعتبر الرافد المحوري لتحقيق تنمية حقيقية، والغنى والعلم والاتحاد هي الأسباب والأهداف في آن واحد التي بإمكانها تكوين إنسان يحقق التنمية الاقتصادية والتطورات العلمية والتنشئة الاجتماعية في أي ظرف كان،..”.
ويُستنتج من هذا كله أن العنصر البشري هو أساس القوة الاستراتيجية لأي بلد، حيث لا يمكن تغيير العناصر الاستراتيجية الثابتة كالجغرافيا والتاريخ، ولكن يمكن للعنصر البشري الجيد أن يُكسب الجغرافيا والتاريخ آفاقاً جديدة، في حين أن العنصر البشري غير الجيد يمكن أن يحوّل هذه العناصر إلى عامل إضعاف للبلد“.
والأمر هنا مرتبط بشكل كبير أيضا بمدى نقص الفساد السياسي والمالي عند الحاكمين ومدى اعتمادهم على التخطيط الاستراتيجي والحكم الراشد بدلا من العمل التكتيكي المؤقت، ومدى اتحادهم والتنسيق فيما بينهم وتفعيل الجماعات المحلية برؤية استراتيجية مشتركة بعيدة عن الفوضى ونقص الفعالية تستهدف الصالح العام.
وعليه فإن هذه التحديات الكبيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالداخل الوطني ومدى اعتماده على نفسه وتشكيل رؤيته لذاته ولمستقبله، إذ كلما كانت التنمية مبنية على الذات وعلى العنصر البشري المحلي كان التحكم في وجهتها المستقبلية واستدامتها أكبر، بينما استيراد النماذج من هنا وهناك فلن يحقق التطلعات المرجوة التي تتماشى مع الواقع الداخلي والأجيال القادمة التي ستكون نِتاجا له، فيقول الأستاذ “مالك بن نبي“:
“ليس من المقبول أن نستثمر ما نرغب فيه ونريده بالوسائل حتى التي هي في يد الغير، بل يجب علينا أن نستثمر ما نستطيع بالوسائل الموجودة فعلا في أيدينا.
وإذن، ما هي الوسائل التي في يد شعب في ساعة الصفر من إقلاعه؟ إن ألمانيا بعدما تعطّلت تماما سفينتها في نهاية الحرب العالمية الثانية أقلعت بمقدار خمسة وأربعين ماركا للرأس فقط، لكن الاستثمار الحقيقي كان في رأس كل مواطن ألماني وفي عضلاته، وبصورة أشمل وأدق كان في تصميم الشعب الألماني وفي التراب الألماني على الرغم من فقره“.
ثالثا: زاوية الأفق المستقبلي المنشود.
لقد كانت التنمية في الجزائر مرتبطة لعشرات السنين باقتصاد وطني مبني على مداخيل المحروقات وفلسفة الريع.
ولكن منذ بداية انهيار أسعار البترول سنة 2014م حتى انكشفت التبعات الحرجة لهذا التوجه الخاطئ، وكذا النتيجة السلبية لغياب فكر التخطيط الاستراتيجي للدولة، حيث كانت تعتمد – على حد قول د. فضيل ابراهيم مزاري – على “رؤية تكنوقراطية للمخططات التنموية مبنية على مركزية التخطيط ولامركزية التنفيذ، تفتقد إلى الخصوصية المكانية للإقليم والتي تُعتبر متغيرا جوهريا في العملية التنموية“. ويمكن إجمال أغلب عوامل إخفاق التنمية المحلية حسب ذات الباحث إلى خمسة عوامل كبرى:
- الرؤية التكنوقراطية للمخططات التنموية.
- عدم كفاءة الأجهزة المحلية التنفيذية (على مستوى البلدية والولاية).
- غياب التوازن الجهوي.
- غياب الارتباطات الاقتصادية فيما بين الأقاليم.
- ضعف دور القطاع الخاص.
انطلاقا من كل ذلك يمكن تحديد الخطوات الواجب اتباعها في تجاوز العقبات التي رهنت التنمية طيلة عقود، إذ أن الأزمة الوبائية مثلا التي حلت بالجزائر سنة 2020م متمثلة في جائحة فيروس كورونا كوفيد-19 قد كشفت حتمية إعادة النظر في كل السياسة العامة الداخلية للدولة في مختلف مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والاتصالات والإدارة.
مّا يعني أن تحسينها هو دفع حقيقي للتنمية المحلية والمستدامة..غير أن التحدي اليوم هو كيفية تحقيق ذلك..ولكن بناء على ما سبق تقديمه فيمكن القول أن الأفق المستقبلي المنشود حاليا هو:
الانتقال من المقاربة البيروقراطية والرؤية التكنوقراطية في التخطيط والتسيير إلى المقاربة بالتخطيط الاستراتيجي والتسيير بالكفاءات المحلية حسب كل إقليم. فهذا هو السبيل الذي يجعل الدولة الجزائرية تقلع بفكر ذو رؤية استراتيجية واسعة مبني على الدراسات العلمية المعمقة، وتعتمد في التنفيذ على الكفاءات المحلية حسب كل إقليم لتكون المسؤولية مشتركة بين جميع الفاعلين.
والآلية لفعل ذلك هي زيادة صلاحيات المجالس الشعبية البلدية، وتعديل بعض القوانين المتعلقة بالمستوى الدراسي للجماعات المحلية للخفض من ذهنية القبلية والعروشية في نيل المناصب، ورفع التنافس فيما بينها المبني على الكفاءات لا غير، وكذا الاعتماد بشكل أكبر على مخرجات البحث العلمي للمراكز العلمية لجعل دراساتها كوثائق مرجعية تستأنس بها مختلف المؤسسات العمومية والخاصة في التخطيط والتسيير.
في الأخير، واستنتاجا ممّا جرى تقديمه، نرى أن الشكل الذي يحدد دور التخطيط الاستراتيجي في تحقيق التنمية هو اعتماد الخبراء المتخصصين فيه، والاعتماد على بحوث المراكز العلمية في مختلف المؤسسات، وذلك عبر تبيان أهميته ودوره من جهة وتحديد التحديات ذات الأولوية من جهة أخرى حتى يتلاءم التوازن بين حاجات الدولة وإمكانياتها، وبين أولوياتها وتطلّعاتها.
نبيل كحلوش
مدير التّخطيط الاستراتيجي والتطوير بمؤسسة “HBBS Company”، ورئيس دائرة الدراسات الاستراتيجية بمركز “الأصالة للدراسات والبحوث”.