تتّجه شعبة الحمضيات بولاية الشلف نحو إعادة مجدها الزّراعي كقيمة مضافة للقطاع الإستثماري العمومي والخاص، من خلال محو آثار التراجع الرهيب في مساحاتها ومردودها ونشاطها، واليد العاملة التي كانت تشغلها يوم كانت تقتحم الأسواق الأوروبية. هذا التّحدّي يرفعه اليوم مستثمرون لاستعادة الرّيادة من حيث الكميات المنتجة بعدما كسبوا معركة النّوعية.
يدرك القائمون على القطاع الفلاحي والمنتجون المحليّون والمستثمرون الخواص، أنّ إعادة شعبة الحمضيات للواجهة الاقتصادية الفلاحية كمنفذ لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، من الأولويات، فهذه الخطوة تعيد المنتوج الجزائري للأسواق الخارجية، وتمكّن حسب الخبراء من تجاوز العجز المسجّل في العائدات البترولية التي تتحكّم فيها الأسواق العالمية.
لقي هذا التّوجّه استجابة من المستثمرين، وشرعوا في تجسيده ميدانيا عن طريق آليات تمنح شعبة الحمضيات طابعا مميّزا في الإنتاج على المستوى الوطني.
بداية العودة
إلى غاية بداية الثّمانينات، ظلّت شعبة الحمضيات الرّقم الثاني في المعادلة الإنتاجية من حيث المساحة والمردود بعد شعبة الحبوب برأي رئيس الغرفة الفلاحية عبد القادر حجوطي، والمدير المسيّر لمزرعة استثمارية خاصة، غير أنّ ظاهرة الجفاف التي ضربت ولاية الشلف مع زلزال أكتوبر 80 خلّفت آثارا كارثية انعكست على نشاط الشّعبة على كل المستويات، حيث وصلت المساحة المغروسة حدود 6662 هكتار، أي ما يشكّل نسبة 6 بالمائة من المساحة الزّراعية المقدّرة بـ 203230 هكتار، حسب التقرير الأخير للجنة الري والفلاحة والغابات والصيد البحري لدورة المجلس الشعبي الولائي من عام 2021.
كما تراجع المردود من 600 و800 قنطار في الهكتار الواحد إلى 250 قنطار، ناهيك عن تراجع نسبة اليد العاملة في الشعبة بعدما استوعبت آلاف العمال الدائمين والموسميين، يقول حجوطي لمجلة “التنمية المحلية”.
هذه الوضعية انعكست سلبا من جهة أخرى على مستوى الوفرة في السوق المحلية والولايات المجاورة ممّا رفع سعرها، وحرم المستهلك صاحب القدرة الشرائية المتواضعة والمتدنية من اقتنائها بالرغم من قيمتها الغذائية، فهي غنية بفيتامين “س”، الذي يحتاجه جسم الإنسان خاصة الأطفال مثلما يقول الطبيب فلاق شبرة، المختص في أمراض القلب والأستاذ الجامعي ديليمي بوراس، المختص في التغذية بجامعة الشلف. بالإضافة إلى هذه المعوقات المتسبّبة في تراجع إنتاج الحمضيات، فقد كان لهيكلة المستثمرات الجماعية التي سيّرت هذه المساحات الفلاحية لفترة طويلة الآثار الوخيمة على زراعة الحمضيات، حيث فقدنا أكثر من نصف المساحة الخاصة ببساتين البرتقال بكل أنواعها (فاقت 27 نموذجا منتجا بولاية الشلف)، يقول رئيس الغرفة الفلاحية حجوطي ومسيّر المشروع الإستثماري محمد زرق الرأس.
كما كان للعامل البشري وسوء برمجة المشاريع الصناعية واختيار أماكن بعيدة عن المؤثرات البيئية الأثر الكبير، حيث أهلك مصنع الإسمنت في وقت سابق آلاف الهكتارات من الحمضيات ببلدية واد السلي والشلف إلى غاية بوقادير، وتأخّر معالجة الوضع إلى غاية السنوات الأخيرة أين تمّ اقتناء أجهزة لامتصاص ما يطرحه مصنع الإسمنت، الذي كان سيفا ذي حدين برأي المختصّين الاقتصاديّين، زيادة على زحف البنايات الفردية والجماعية التي ضيّقت مساحة الغرس.
خارطة طريق لتجاوز الوضع
أهمية المردود الاقتصادي وتفعيل مجال التنمية المحلية ورسم خارطة الطريق لتجاوز الواقع الأليم والوضعية غير المريحة لشعبة الحمضيات، عجّلت بتفعيل هذه الزّراعة على مستوى الولاية، حيث شرع في تجسيد مشروع مشتلة الحمضيات بالتعاون مع تعاونية فلاحية فرنسية بمبلغ يقارب 14 مليار بمنطقة أولاد فارس بالمخرج الشمالي الغربي لعاصمة الولاية، على مساحة 9 هكتارات، وهذا عبر 3 مراحل لإنتاج مليون شتلة سنويا لمختلف وأنواع الحمضيات البالغ عددها لحد الساعة 22 نوعا بما فيها أشجار الليمون والمندرين، يقول رئيس المشروع عبد القادر حجوطي.
ستسمح هذه العملية بتسويق الشتلات لجميع ولايات الوطن، وهذا ابتداءً من شهر مارس من كل سنة، يشير محدّثنا، الأمر الذي يفتح المجال أمام توسيع المساحة المغروسة إلى 8 آلاف هكتار، منها 6 آلاف دخلت طور الإنتاج، ما يسمح للقطاع بإنتاج يتراوح بين 1.6 مليون و1.8 مليون قنطار هذه السنة. كما سيقفز المردود إلى أضعاف مع تجديد البساتين القديمة، ودخول مزرعة محمد بناجي ببئر الصفصاف المعروفة بنوعية منتوجها حيّز الإنتاج، الذي يضاف إلى منتوج الأشجار القديمة التابعة لذات المزرعة الحديثة في تسييرها ومنتوجها ذي المواصفات العالمية بالنظر إلى نوعية أشجارها، يقول محمد زرق الرأس المدير المسير للمزرعة الاستثمارية التي منحت ضمن الشراكة مع وزارة الفلاحية عن طريق صفقة عمومية فاز بها المستثمر، حيث مكّنته من الحصول على مساحة إجمالية وصلت إلى حد 300 هكتار، منها 250 صالحة للفلاحة تحتل فيها الحمضيات مساحة 230 هكتار، يضيف المدير المسيّر.
أما بخصوص هذه العملية، فقد مكّنت ذات المستثمر منذ 2018 إلى غاية الآن غرس 170 هكتار من أشجار الحمضيات، منها 60 هكتارا من نوع كليمونتين وباقي المساحة عبارة عن برتقال يضاف إليها 30 هكتارا من فاكهة المشمش و10 هكتارات من الرومان، تضاف إلى 15 هكتارا من البساتين القديمة الخاصة بالحمضيات.
ويشير محدثنا إلى اعتماد أساليب استثمار وعمل جديدة داخل المزرعة، ترتكز على الطريقة العلمية والحديثة في تربية الشتلات وغرس أشجار الحمضيات والليمون، والتي يسهر عليها تقنيون ومهندسون في الفلاحة والري ومكافحة الأمراض والأعشاب الضارة بمواصفات عالمية، زيادة على التعامل والتنسيق مع مدير قطاع الفلاحة والغرفة والمندوبية الفرعية للقطاع بواد الفضة وديوان السقي والمركز الجهوي لمراقبة النباتات والديوان الخاص بالعملية، يقول محمد زرق الرأس في لقاء بمجلة “التنمية المحلية”.
مؤشّـرات الزّراعة العصرية
لا تخلو حقول البرتقال بمحيط الشلف الأوسط بدءاً من بئر الصفصاف بواد الفضة مرورا بأولاد عباس وأم الدروع والشلف والشطية واد السلي وأولاد بن عبد القادر وبوقادرير وجزء من سدّي عكاشة والصبحة، من المتابعة العملية سواء تعلق بالمشاريع المحدود للفلاحين الصغار أو المجموعات الفلاحية أو أصحاب الشراكة، كما هو الحال مع مشروع محمد بناجي الجاري استغلاله، بالإضافة إلى الاستثمار العمومي عن طريق مشتلة أولاد فارس.
هذا التحول الذي فرضته طبيعة الزراعة الحديثة المبنية على التنافس دخول الأسواق المحلية ضمن مبدأ تأمين الأمن الغذائي أو التوجه نحو التصدير ضمن الآفاق المتوسطة، كما يقول مدير مزرعة بئر الصفصاف، التي وفّرت ترسانة من الـتأطير البشري المتخصّص من مهندسين وتقنيّين لتغطية أنشطة المزرعة المتواجدة على الطريق الوطني رقم 4 المحاذي لخط السكة الحديدية بعمق حوض الشلف. كما لجأ مسيّر مشتلة أولاد فارس إلى التنسيق مع التأطير الجامعي المتخصّص من باحثين وتقنيّين ودكاترة وخبراء للمؤسّسة الجامعية لحسيبة بن بوعلي من خلال ملتقيات وندوات دولية ومغاربية احتضنتها الجامعة لتبادل الخبرات وترقية إنتاج الحمضيات بالجزائر، والتي جلبت مهتمين بذات الزراعة بعدة ولايات التي ربطت فضاءً تشاوريا مع مسؤولي المشتلة بأولاد الفارس.
آفاق تطوير المشاريع
فرض خوض الاستثمار في هذا النوع من المنتوج الفلاحي، التعامل الجدي مع كل المعطيات المتعلقة بالاستثمار الخاص والعمومي، أو بالشراكة مع وزارة الفلاحة من أجل تطويره والعودة للمنافسة في الأسواق المحلية والدولية.
ففي مزرعة الحمضيات ومشتلتها ببئر الصفصاف لجأ مسؤولوها إلى تدعيمها بيد عاملة تصل إلى 130 عامل، وهو ما يمكّن من توسيع المزرعة إلى 10 هكتارات تخص فاكهة الحمضيات و20 هكتارا للإجاص، وممّا يرفع فرص استحداث مناصب شغل غير دائمة في موسم الجني مثلما قال محمد زرق الراس، كما تمّ حفر بئر عميق تضاف إلى الأحواض الأربعة التي تستوعب ما يفوق 90 ألف متر مكعب من مياه السقي بالتقطير والمعالجة النباتية، والتي هي قيد الاستغلال والتنفيذ.
ويطمح رئيس الغرفة الفلاحية المشرف على المشتلة بأولاد فارس، إلى توسيع مجال الشتلات وتغطية طلبات الراغبين في الاستثمار في هذه الشعبة، التي تعتمد على سد واد الفضة المنجز منذ 1932، وأصبح مهدّدا بإرتفاع نسبة ترسب الأوحال التي وصلت إلى 70 بالمائة من جملة طاقته التي وصلت إلى 69 مليون متر مكعب، فيما يبقى سد سيدي يعقوب بأولاد عبد القادر رئة السقي، ولكن تراجع إلى ما دون 100 مليون متر مكعب، حسب تقرير لجنة الري بالمجلس الشعبي الولائي في دورته الأخيرة 2021، والذي خصّص جزء منه للسقي بكل من واد السلي، بوقادير، الشلف والشطية.
وتدعّمت هذه العملية بهياكل من الآبار بلغت 70 بئرا عميقا لسقي 1200 هكتار و1800 بئر تقليدي تستعمل لفلاحة 800 هكتار، حسب ذات الوثيقة.
العودة للأسواق الأوروبيّـة
تصدير الحمضيات ليس غريبا عن ولاية الشلف، فقد كانت قائمة منذ عهد الاستعمار إلى غاية الاستقلال خاصة في فترة السبعينيات، وفرضت نفسها في الأسواق الأوروبية، ولعل دواءين لـ “لاكوفال” بواد الفضة والشلف عينة من هذا الفضاء الذي فقدناه بفعل سياسات عرجاء ضيّعت مكانة الشلف في هذه الأسواق، يقول مختصّون جامعيّون ومهنيّون بالقطاع.
هذا التّحدّي يمكن رفعه وتجاوزه حسب مدير مزرعة بئر الصفصاف، خاصة في الأصناف المتعدّدة كـ “أورونيلاس”، “أوروقراندي”، “توماتيري”، “تولاس”، “المندرين” وأنواع البرتقال “واشينتون”، “نغيلينا” و”لان ليت” مع أنواع أخرى تفوق 20 نوعا بإقليم الولاية،
يقول المهندس عبد القادر حجوطي، الذي ينتظر دعما آخر لاستكمال مشروع المشتلة الذي يتطلّب أموالا إضافية، حسبه.
انطلاقا من هذه المعطيات الدقيقة تبرز الأهمية التنموية لهذه الشعّبة في توفير الأمن الغذائي واستحداث مناصب شغل جديدة، وضمان مداخيل بالعملة بالصعبة عن طريق التصدير لتحسين العائدات، ولكن هذا الهدف يفرض استعادة مكانة الحمضيات في الأسواق العالمية التي فقدتها الجزائر، وهو ما يتطلّب مرافقة المشاريع الاستثمارية واستغلال الطاقات الفلاحية التي تزخر بها المنطقة بعد التجارب النّاجحة المسجّلة ضمن خارطة طريق لوضع القطاع الفلاحي على السكة.